انتسبتُ إلى معهد العلوم الإجتماعية، في الجامعة اللبنانية، مع مطلع الحرب في لبنان (1975)، وكنت في نهاية العقد الثاني من عمري. عشتُ يفاعتي في رحاب بيروت، المدينة الكوزمو بوليتية في الستينات وأوائل السبعينات. ودرستُ حتى المرحلة الثانوية في مدارسها الخاصة والرسمية (بالأخص ثانوية جديدة المتن الرسمية).
الدوافع التي حثتني أو جعلتني أختار العلوم الإجتماعية، كحقل أكاديمي لمتابعة التحصيل الجامعي، يمكن ردُّ أغلبها للشروط الثقافية والإجتماعية التي كانت تعتمدها إدارة المعهد، وهي، في الأغلب شروطٌ تسمح لمنتسبي المعهد من الطلاب في الترقّي الإجتماعي ودخول الطبقات الإجتماعية الوسطى، التي كان قوامها يتبلور على امتداد العقود الثلاثة السابقة على السبعينات. ولم تكن تلك الشروط إلا ترجمة لمناخات أكاديمية حاولت إرساءها مرحلة بعثة إيرفد وشطرٌ من الحكم السياسي في الدولة، في أيام حكم الرئيس شهاب. بيدَ أنّ الشروط هذه لم تكن وحدها حافزة للإنتساب إلى العلوم الإجتماعية. الذي دفعني أكثر نحو هذه الوجهة، أنّ الحيّز المديني لبيروت كان يفعل فعله لجهة تواصل المدينة مع مقتضيات التحديث الغربي، ولا سيما لجهة ما كانت، على سبيل المثال، ثورة 1968 الطلابية في فرنسا تضفيه من مناخات جديدة على مسيرة فئات عريضة من الطلاب والتلامذة في أواخر العقد السادس من القرن الفائت. كانت تلك لحظة "علوم إجتماعية" بالفعل، وافدةٌ من حراكات غربية، لكنها لحظةٌ انعقدت وتساوقت مع حوادث عديدة أخرى في لبنان كانت تنبئ أنّ مناخات أهلية (نزاعية) قيد التشكُّل...
هذا الإنعقاد بين مناخات ثقافية / سياسية محلية وأخرى غربية، وثالثة عربية، جعل العلوم الإجتماعية الأفق الأنسب، لواحدٍ مثل عشرات ومئات آخرين، سعياً وراء التقاط ما كنا نسميه في حينه "روح العصر".
لكنّ الدخول إلى المعهد كان شيء والخروج من كنفه شيء آخر، كما إنّ العودة إليه مدرّساً وأستاذاً باحثاً شيء ثالث.
البداية، كانت مع الملامح الأولى لجولات الحرب الأهلية ونزاعاتها المسلحة، وانعكاسها على الجماعات الأهلية، ذات المنابت الثقافية / الطائفية والعصبية والإجتماعية المختلفة. هذا المناخ بدأت ترتسم ملامحه في الجامعة، وضمناً المعهد، وبدأ ينسلُّ إلى أواصر العلاقات والبرامج والمناهج والهيئات التعليمية والطلابية فيه. عشنا كطلاب في سنوات الإجازة الثلاث "صراعات نظرية" (وسياسية / سلطوية) خلال عمليات تدريس الحصص والمواد والمقررات. لم تكن تلك الصراعات حبيسة القواعد الأكاديمية البحتة، للعلوم الإجتماعية. كانت دائما "تفيض" عنها، وكنا كطلاب نساهم بما يسّرته قراءاتنا و"اجتهاداتنا المعرفية" في جريان الصراعات وارتسام "الجبهات" خلالها. لكن، الأهم في كل ذلك، أننا كطلاب كنا مدفوعين، ذاتيا في الأغلب، للعودة إلى مناهل العلوم تلك وإلى مرجعياتها النظرية والمعرفية، كما صيغت وتبلورت في بلدان نشأتها، أي فرنسا في المصاف الأول، والولايات المتحدة. وعلى الوجه الآخر، كانت هناك عودة كثيفة للتراث الإسلامي والعربي، وبالأخص "عصبية" إبن خلدون. إذ إن تقديم التفسيرات والإجابة على أسئلة شديدة التناسل، اتخذ شكل "المجابهة المعرفية" التي كان يدخل في "أسلحتها" كل ما يُعثر عليه في مقولات معادلة شرق / غرب. وكأنّ "المجابهة المعرفية" تلك كانت إمتداداً لإنقسام أهلي / سياسي بدأ يعم الأرجاء والأنفس والمؤسسات.
في المعهد، وعلى امتداد سنوات الإجازة والجدارة، وهذا كان سقف الشهادات التي يمنحها المعهد في حينه، كان الإستقطاب، إداريا وهيئة تدريسية وطلاباً، وأحيانا في مضامين المقرارات، يصبح هو المحرك. وكانت "المكانة" تُعطى، من قبل الطلاب، لمن يجيد مُسكة التعليم والتأهيل، ولمن يجيد أيضاً، وبلا غرابة، مُسْكة التأليب (والسعي وراء) "الغلبة العصبية"، حتى لو استند إلى تبرير نظري، مخالفٍ لممارساته، كمثل مفهومي "الغلب" الخلدوني و"الكتلة التاريخية" لغرامشي.
كان كل ذلك قد بدأ عندي قبل العام 1977، كما يطرح السؤال الموجه إلي في أسئلة الإستمارة، بمناسبة العيد الستين للمعهد (العيد السابع والستين للجامعة).
لم أتوانَ عند نيلي شهادة الجدارة، وقد كان موضوع البحث فيها عن "علاقات السلطة والقرابة والملكية العقارية"، عن السفر تواً إلى باريس، لمتابعة تحصيل شهادتي دبلوم الدراسات المعمقة و الدكتوراه. في هذه المدينة، التي مكثت فيها ست سنوات متتالية وانتسبت إلى جامعتين فيها، السوربون الخامسة ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الإجتماعية، كانت هي الأستاذ الفعلي الذي يعود إليه الفضل الأول في إعادة تكويني المعرفي والأكاديمي والحياتي أيضاً.
في العام 1979، عام سفري إلى فرنسا، تابعت الأبحاث والدراسات التي كان عليّ انجازها مع استاذين مشرفين (جان بول شارنيه وأوليفيه كاريه)، وتابعت عشرات، بل مئات المحاضرات والمؤتمرات مع أساتذة وباحثين ومفكرين آخرين (أمثال: موريس غودوليه، روبير كريسويل، أندريه آدن، دومينيك شوفالييه، ايف لاكوست، وعشرات غيرهم) وأذكر أني كنت مواظباً على حضور البرنامج الثانوي للكوليج دو فرانس، وأبرز ما فيه سيمينيرات كلود ليفي – ستروس في حينه. ما زال أثر هذه المدينة ودورة الحياة فيها وما أرسته جامعاتها ومكتباتها في أعماقي وتكويني، ماثلاً بقوة حتى الآن. وفي اعتقادي أنّ الفصل الباريسي كان ذو قيمة وازنة بين فصول حياتي، ويحتاج إلى شيء من "الإستخلاص"، لا مجال له هنا.
في العام 1986 عدت إلى لبنان، بعد حصولي على شهادة الدكتوراه في العلوم الإجتماعية (إختصاص: المغرب والمشرق المعاصرين وقد ناقشتها عام 1984، ونلت درجة جيد جدا عليها) وكنت أجريت تسجيلاً أكاديمياً وإدارياً، قبل عودتي، لتحضير دكتوراه ثانية مع دومينيك شوفالييه، لكن تغيراً حصل آنذاك وحال دون متابعتي الدكتوراه الثانية في حينه، ثم عدت بعد عقد ونيف إلى انجازها، فأتممتها.
بصفة متعاقد، في العام 1988، دخلت إلى الجامعة مدرّساً وتحديداً إلى معهد العلوم الإجتماعية في فرعه الرابع (زحلة). وكانت الجامعة عموماً قد بدأت تنساق وراء منطق قوى الطوائف وأحزابها، على شاكلة "الإقطاعات" كما كان الحال في مرحلة "النظام المقاطعجي"، في الثامن عشر والتاسع عشر، في جبل لبنان، والذي استمرت "روحه" حية في التركيبة الجماعوية لنظام السلطة السياسية إلى الآن.
آثرت خلال فترة عملي في المعهد، وأنا أتقاعد هذه السنة (2019) بالتوازي مع العيد الستين لتأسيسه، أن يكون عملي مع الطلاب تحديداً، على قاعدة التجديد والبحث والتركيز على تكوين العقل العلمي، وفق مقولة غاستون باشلار وكبار الإبيستمولوجيين لعلوم الإنسان والمجتمع، وعلى الربط بين مقولات وطروحات هذه العلوم، وبالأخص الراهن منها، ومجريات الواقع اللبناني والشرق أوسطي المحيط، وبدرجة أعم الوتيرة المذهلة للتحولات التي تجري في الأنظمة الإجتماعية وفي العلاقات اليومية التفاعلية بين الناس في المجتمعات المختلفة والمتمايزة. وقد اوليت، لا سيما خلال العقد المنصرم، أولوية تحليلية ونظرية للفرد والفردانية واشكالية اولوية الجماعة على الفرد في الإنتظام الإجتماعي / والثقافي في بلدان المنطقة العربية. وتركّز معظم الدراسات والأبحاث التي كنت، وما زلت أحققها، على اشكاليات الثقافة ونظم العلاقات الإجتماعية والسلطة وتكويناتها، في الشرق الأوسط، وبالأخص في لبنان، وسأبقى، بعد تقاعدي الوظيفي من الجامعة، لصيقاً بطلابي الذين أشرف على أطروحاتهم، دافعاً إياهم لإلتماس "روح العصر" الذي يعيشون فيه، من زاوية البحث العلمي الرصين والجاد، ومتفرغاً في الآن عينه، لإستكمال مشاريع أبحاثي.